لقد صاحبت العقول والأذواق على مدى قرون طويلة، أنماطا معرفية مسکونة بـ (الثبات)، لا تخرج مکانتها العلمية عن حدود مرسومة سلفا، لتظل القناعات هي کما وضعها الأوائل وقننوها، فقط لفضل الأسبقية. وکذلک تظل الأحکام والآراء والأفکار خاضعة منسجمة، بل حتى القوالب الشکلية التي ستلازم تلک الدراسات، من أبواب ومباحث، إلا من تفاوت ضئيل يمکن إدراکه دون کبير عناء، تظل خاضعة للانسجام نفسه. هذا المشهد يمثل واقع العلوم النقلية، التي جعلها الفيلسوف «حسن حنفي» خمسة أنواع: علوم القرآن، علوم الحديث، علوم السيرة، وعلوم التفسير، انتهاء بعلوم الفقه، حيث يشمل جميع هذه العلوم وصف (الثبات)، والحجة على التزام هذا الثبات، کون تلک العلوم نقلية خالصة، لا تفصلها مسافة عن النصوص المقدسة، رغم أن التوظيف يظل توظيفا بشريا. هذا الاعتماد المنهجي على النصوص، سيجعل حضور نص القرآن أو نص الحديث، وبدرجة أقل نص الشعر، نتيجة حتمية للتسليم المسبق بعدم الخوض في تفاصيل تلک العلوم، التي تحمل صفة (النقل)، وبالتالي فإن التوکيد على حرفية النصوص هو زيادة في منع التبديل، وليس أمام العصور اللاحقة إلا أن تأخذ بکمال المنجز الذي تحقق للعصور السابقة. يأتي اعتراض صاحب مشروع (التراث والتجديد) حول التسليم باکتمال المنجز، على مستوى العلوم النقلية، آخذا في حسبانه، أن هذه العلوم جاءت لتلبية حاجة لحظة زمنية بعينها، وإذا کانت ستستخدم بالضرورة، لحظة لاحقة وزمنا آخر. فإنها ستخدمه متى استجابت لمعطياته ومتغيراته، وبعبارة أوضح لإشکالياته، ومادام من وضع الأسس عند التأسيس، فإن الذي سيطلب التجديد لابد أن يراعي مقتضيات عصره الراهن، وهو بذلک يمنح لهذه العلوم النقلية إمکانية الفعالية وفق مقتضيات الحالة، إنها دورة حياة جديدة انطلاقا من تلک الفاعلية في الزمان والمکان، بدل استحضار تلک العلوم وفق أطرها القديمة، ومألوف درسها، ويتم التوصل حتما إلى عدم جدواها ما دامت کذلک، إن عاجلا أم آجلا، ليکون مصيرها حينئذ خلاف ما قد يتوقع أشد المتحمسين، وأقلهم حماسة.