يعتقد سبينوزا أن الطبيعة جاءت من التنظيم ما يجعل الإنسان يعيش في خضمها بأفضل طريقة، نظراً لأن الطبيعة ذاتها جاءت على أبدع نظام، وأکمل طريقة، وهذه الصورة المثالية للطبيعة جاءت من خلال انتظامها بنظام حتمي صارم لا مجال فيه للحديث عن حرية أو مصادفة أو خوارق. ولذلک فالقول بحرية إرادة يتمتع بها الإنسان هو دليل عدم إدراک هذا الإنسان لنظام الطبيعة، ومن ثم فالجهل هو ما يمنح الإنسان فرصة تخيل نفسه بإرادة حرة.
وينسحب هذا التصوّر إلى الاعتقاد بأن الطبيعة خيّره، ومن نظرة سبينوزا المتفائلة لهذه الطبيعة يخرج تصوره عن ضرورة أن يتفق مراد الإنسان مع الطبيعة، وهي طبيعة جاءت ملائمة تماماً للحياة الإنسانية، من خلال نظام الأشياء الحتمي، وبالتالي فهي طبيعة توفر للإنسان الطرائق اللازمة لحفظ وجوده، والمحافظة على نفسه، ولذلک کان معيار الخير، أن يسير الإنسان جنباً إلى جنب سنن الطبيعة ونظامها العام، وأن يقوم بما يتناسب وهذه السنن؛ لأن فيها الخير له.
إن القارئ لهذه الفلسفة، وهو يسير معها، ربما سيستشعر أن خلفها فلسفة سياسية تحاک، وترمي إليها في آخر الأمر، ولذلک أعتقد أن سبينوزا في کل ما ذهب إليه کان يحمل أجندة سياسية خلف مشروعه في الجوهر الواحد، فهو يسير في نظرته للوجود على نحو حتمي، حتى يصل إلى المنطقة الأکثر تعقيداً، وأعني المجتمع البشري، لينظر عن قرب في کيفية تنظيم شؤون الإنسان؛ أي هذا الکائن الملتبس، والهجين من الخير والشر، وعلى هذا النحو، يسعى سبينوزا لتأسيس مشروع سياسي جاد، يعمل على تنظيم علاقة الفرد بنفسه أولاً، ثم علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه ثانياً، ثم وأخيراً علاقة هذا المجتمع بالسلطة العليا في الدولة.
وجب هنا، ضرورة التمييز بين ضربين من الحرية، في حديث سبينوزا، تبعاً لمستويين من فلسفته، فالحرية في المجال الطبيعي، والتي انتهى إلى إنکارها عملاُ بمبدأ الحتمية، والحرية في المجال السياسي الاجتماعي الأخلاقي، والتي أصر على ضرورتها بما هي حق التفلسف، والبحث النظري.