حاول فيلسوف العلم الإنجليزي المعاصر فيليب كيتشر الإجابة عن التساؤلات التالية: من أين أتت اللوائح الأخلاقية؟ هل أتت من الأوامر الإلهية أم من المقاربات الفلسفية أم من اتفاق بين الناس على مر السنين؟ هل هي ثابتة أم تتطوّر؟ كيف نتصور التقدم الأخلاقي؟ ولقد رأى كيتشر أن الأخلاق مشروع طوّره البشر وصقلوه وشوهوه بشكل جماعي طوال تاريخهم. إن الأخلاق -بحسبه- «تكنولوجيا اجتماعية» ظهرت للمرة الأولى استجابة لمشكلات تكيفية سبق وأن واجهت البشر الأوائل ذوي التصرفات الإيثاربة المحدودة والهشة. وكانت وظيفتها الأصلية إعادة مداواة حالات إخفاقات الإيثار المُكلفة داخل المجموعات، ومِن ثَمَّ الحد من التوترات الاجتماعية، وخلق فرص أكبر للتعاون في المجموعات الأكبر. ولا تزال الأخلاق تحتفظ بهذه الوظيفة إلى يوم الناس هذا، وظهرت وظائف ثانوية مختلفة استجابة لمشكلات اندلعت نتيجة لتطبيق حلول سابقة كتوسع رغبات البشر الترفيهية وغيرها. وتاريخ هذه التكنولوجيا التي ما زالت عاملة هو نفسه قصة «مشروع كيتشر الأخلاقي».
صميم هذا المشروع الاقتناع بأنه على أي تصور فلسفي كافٍ للأخلاق أن يصاحب فهمًا علميًّا وتاريخيًّا لتطوّر الأخلاق، لذا نحن في حاجة إلى منهج طبيعاني برجماتي؛ طبيعاني بقدر عدم استدعاء كيانات غامضة في تفسير الأخلاق، وبرجماتي يربط الفلسفة بحياة البشر ذوي الاحتياجات المُشتركة. وتتألف مكونات مشروعه من ثلاثة منظورات: تفسير تحليلي تاريخي لنشأة الأخلاق، ومنظور ميتاأخلاقي في التقدم الأخلاقي، وموقف معياري للسلوك الحالي. أحل كيتشر النموذج التكنولوجي للتقدم الأخلاقي من ناحية التحسينات الوظيفية الواقعة للوائح الأخلاقية محل النموذج التقليدي المتمسك بالحقائق الأخلاقية. ومن ناحية معيارية؛ أكد كيتشر أننا نواجه اليوم نسخة موسعة من مأزق أسلافنا الصيادين وجامعي الثمار وإخفاقاتهم الإيثارية تجاه التغيرات البيئية والحروب وغيرها، تسبب توترات اجتماعية. وبناء عليه, كانت عملية معالجة إخفاقات الإيثار وما زالت الوظيفة الأصلية للأخلاق التي انبثق المشروع الأخلاقي كحل جزئي لها. وصرح كيتشر أن الدور الوحيد الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في الأخلاق هو دور القَابِلَة لاقتراح حوار علماني مثالي مُتجدد وبعض قواعد الالتزام المتبادل. ستعتمد دراستناعلى المنهج التحليلي النقدي، الذي يهدف إلى تحليل المفاهيم والمشكلات المتضمَّنة في قضية البحث، وتحليل نصوص كيتشر نفسها؛ وذلك في محاولة لقراءتها قراءة نقدية لا تكتفي بعرض الأفكار، وإنما تحاول فهمها، وتحليلها، ثم تقييمها. ولهذا تخلص هذه الدراسة إلى إمكانية تأسيس إطار معياري تأويلي بديلًا (أكثر اتساعًا) لمعيارية مشروع كيتشر الأخلاقي، يعمل على تعزيزه بدلًا من إضعافه.